
بنشاب : في زمنٍ تهاوت فيه القيم، وتبدّلت فيه الأدوار، وارتفعت فيه الأصوات الواهية لتغطي على صوت الصدق، يبقى في أفق الرجال نجمٌ لا يخبو ضياؤه، وإن أطبق عليه الليل من كل الجهات.
محمد ولد عبد العزيز، ذاك الاسم الذي مهما حاولت رياح الخصومة أن تعصف به، ظلّ كالسنديانة الجبلية؛ شامخًا، راسخًا، لا تزعزعه الأقاويل ولا تُلينه المساومات.
فالرجل الذي صنع لنفسه مجدًا بجهده، ورفع لبلاده مكانًا بين الأمم بإرادته، لا يُختزل في خبرٍ عابر ولا في وشايةٍ تُنسج في ليلٍ بارد من ليالي السياسة.
ما سُمّي بوساطةٍ هنا أو مبادرةٍ هناك، لا تعدو كونها محاولاتٍ لترويض العاصفة، ولكنهم نسوا أن العاصفة لا تُروّض، وأن الكبرياء حين يسكن نفسًا حرّةً، يصير عصيًّا على الإملاء والشرط.
لم يكن محمد ولد عبد العزيز يومًا من أولئك الذين يبيعون المبدأ بثمنٍ، ولا من الذين يُبدّلون الولاء بالراحة أو السلامة، فقد تمرّس في دروب الشدائد، وجرّب مرارة الغدر، واختبر خسة الطعن من الخلف، لكنه ظلّ على نهجه لا يلين ولا ينحني.
أن يُقال إن رجلًا كهذا يقبل اللجوء أو يعقد صفقة في الظلام، فذلك جهلٌ بتاريخٍ كتبه بمداد المواقف لا بالحبر السياسي.
لقد كان، ولا يزال، من طينةٍ أخرى؛ طينة الرجال الذين يصنعون الأحداث، لا الذين يُصنعون بها.
ومن العجب أن يُساءل القائد الذي أعاد للوطن سيادته، وحمى حدوده، وحرّر قراره، كأنه خصمٌ في قضيةٍ وُلدت من رحم الحسد، لا من ميزان العدالة.
أما من يظنون أن الكبرياء تُشترى، فليعلموا أن العزّة لا تُقاس بثمن، وأن من باع نفسه لله وللوطن، لا يساوم على حريته في سوق المذلّة.
وقد عبّر عن ذلك حين قال كلمته التي ستُروى في مجالس الكرامة:
“من هو غزواني حتى يملي علي ويشرط علي؟!”
ليست جملة غضبٍ، بل صرخة كرامةٍ من رجلٍ خبر المناصب وعرف حدود الرجال.
هي كلمة من وحي التاريخ، لا من وحي الانفعال؛ فالتاريخ لا يكتب عن المطيعين، بل عن المتمردين على الباطل.
قد تمرّ الأيام، وتطوى الصفحات، لكن صفحة محمد ولد عبد العزيز ستبقى مشرقةً بين صفحات الوطن، لأنها كتبت بالثبات حين اضطرب الجميع، وبالصدق حين نافقوا، وبالكرامة حين خنعوا.
إنه الرجل الذي إن غاب عن المسرح، بقيت ملامحه في الذاكرة، وصدى مواقفه في الضمير الجمعي للأمة.
فالتاريخ لا يُنصف في لحظته، بل بعد حين، وحين يأتي ذاك الحين — وسَيأتي — سيعلم الناس أن هذا الرجل لم يكن متهمًا، بل كان امتحانًا لعدالة وطنٍ ضلّ طريقه.
يبقى محمد ولد عبد العزيز جبل الكبرياء في وجه الريح، وصوت العزّة في زمن التنازل، ورمزًا لوطنٍ لم يعرف بعد كيف يزن الرجال بميزانهم الحقيقي.
وإذا سُئل التاريخ يومًا: من بقي صلبًا حين انكسر الجميع؟
فسيجيب دون تردد:
"هو ذاك الرجل الذي لم يبع نفسه، ولم يُبدّل قسمه، ولم يُساوم على كبريائه."
Brahim abdellahi
