
بنشاب : رغم مرور أكثر من ستة عقود على الاستقلال، ما تزال موريتانيا تُواجِه إرثًا ثقيلًا يُطارد حاضرها ومستقبلها: إرث العبودية. فالدولة التي نالت لقب “آخر معقل للرقّ في العالم” لم تحصل عليه اعتباطًا، بل نتيجة واقع اجتماعي مركّب يَضرب جذوره في بنية المجتمع الموريتاني، ويقوم على تراتبية طبقية وإثنية عمرها قرون.

منذ دستور 1961 الذي أعلن المساواة بين المواطنين، إلى مرسوم 1981، ثم إلى تجريم الرق في قانوني 2007 و2015، ظلّت النصوص تتقدّم… بينما الواقع يتأخر أو يراوح مكانه. فالمشكلة لم تكن يومًا في التشريعات، بل في غياب الإرادة السياسية وآليات الإنفاذ. إذ لم تُسجّل البلاد خلال عقود سوى عدد محدود جدًا من القضايا التي وصلت فعليًا إلى القضاء، في حين بقي آلاف الضحايا في الظلّ، يواجهون الوصم، الفقر، وهيمنة البنى التقليدية الحامية للنظام الطبقي القديم.
● مقاومة الحراطين… من صمت القرون إلى صوت الشارع
ضمن هذا المشهد، برز الحراطين – وهم أكبر كتلة ديموغرافية في البلاد – كقوة اجتماعية وسياسية فرضت نفسها عبر النضال. شكّلت حركة “الحر” (1978) بقيادة مسعود ولد بلخير لحظة مفصلية في تاريخ موريتانيا الحديث؛ فقد كسرت الصمت، وقدّمت خطابًا جديدًا يربط بين الحرمان الاقتصادي، التهميش السياسي، والاضطهاد الاجتماعي.
لم يكن نضال الحركة مجرد صراع على الحقوق المعيشية، بل كان معركة وجود ضد نظام عنصري قائم على النسب، يورّث الاستعباد عبر السلالة. ولهذا اصطدم مشروع الحركة ليس فقط بسلطة الدولة، بل أيضًا بالبنى التقليدية المتجذرة في المجتمع.
ومع ذلك، استطاعت الحركة أن تفتح الباب أمام الوعي، وأن تُحوِّل قضية الحراطين من “تابو اجتماعي” إلى موضوع سياسي وإعلامي يُناقش في العلن.
● أزمة الهوية… حين انقسمت الحركة وانقسم الخطاب
في أواخر الثمانينيات، واجهت حركة “الحر” أخطر امتحاناتها: سؤال الهوية.
- فريق من قادتها اختار التقارب مع السلطة ورأى أن خلاص الحراطين يمرّ عبر الاندماج في المنظومة العربية – البيظانية. هذا التيار تبنّى رواية الدولة التي أنكرت وجود مشكلة عنصرية، وفضّلت الحديث عن “قضايا اجتماعية” بدل “قضايا عبودية”.
- في المقابل، تيار آخر رأى أن الحراطين يشكّلون كيانًا إثنيًا متميزًا، لا يشبه البيظان الذين استعبدوهم، ولا ينتمي بالكامل إلى المجموعات الإفريقية غير العربية، رغم تقاطعه معها في تجارب الاضطهاد والتهميش. هذا التيار تبنّى خطابًا أكثر جرأة، واعتبر أن الحراطين هم “السود الناطقون بالعربية”، وأن معركتهم هي معركة تحرر أسود داخل ثقافة عربية–إسلامية محافظة.
هذا الانقسام لم يكن مجرد خلاف فكري؛ لقد أعاد تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي، وأثر لاحقًا في مواقف الأحزاب والنخب، وفي علاقة الحراطين بمحيطهم العربي والإفريقي.
● العبودية… هل هي قضية مجتمع أم قضية دولة؟
يُخطئ من يعتقد أن العبودية في موريتانيا هي “ممارسة أفراد” أو “بقايا تاريخية”. الحقيقة أنها منظومة كاملة، قائمة على:
- تراتبية طبقية محمية بالعادات والفقه التقليدي.
- سلطة قبلية ترفض التنازل عن الامتيازات التاريخية.
- دولة تتردد في مواجهة البنى التي تستند إليها شرعيتها السياسية.
لذلك، فإن استمرار الرق – أو “مخلفات الرق” بصيغته المخففة – هو في جوهره إخفاق سياسي قبل أن يكون إخفاقًا اجتماعيًا. فالدولة التي لا تواجه الظلم البنيوي تتحول إلى شريك غير معلن فيه.
● إلى أين؟
اليوم، تقف موريتانيا أمام مفترق طرق:
- إما أن تواصل سياسة “إدارة الأزمة” والاكتفاء بشعارات المؤتمرات الدولية،
- أو أن تخوض معركة حقيقية ضد الرق ومخلفاته، تبدأ بإصلاح العدالة، وتحرير الضحايا من التبعية الاقتصادية، وتمكين الحراطين سياسيًا، وكتابة تاريخ وطني يعترف بالجرح بدل إخفائه.
لقد أثبت التاريخ أن الظلم الذي لا يُعترف به لا يُشفى، وأن المجتمعات التي تتجاهل ماضيها تظلّ أسيرة له.
وموريتانيا اليوم ليست بحاجة إلى قوانين جديدة بقدر حاجتها إلى شجاعة سياسية تعترف بأن الرق ليس “أسطورة” ولا “فزاعة” خارجية، بل جرح داخلي لم يندمل بعد.
● الخلاصة
العبودية ليست قصة الماضي، بل معركة الحاضر.
هي ليست “ملفًا حقوقيًا”، بل سؤال وجود: أي دولة نريد أن نكون؟ دولة المساواة… أم دولة الإستعباد .؟!
وبين هذا وذاك، يواصل الحراطين – ومعهم كل الموريتانيين الأحرار – نضالهم الطويل لانتزاع حق بسيط:
أن يولد الإنسان حرًا… وأن يعيش حرًا… وأن يُعامَل كإنسان.
